فصل: تفسير الآية رقم (161)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمّ‏}‏ هنا عاطفة على جملة‏:‏ ‏{‏قل تعالوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ فليست عاطفة للمفردات، فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة، وهو مهلة مجازيّة، وتلك دلالة ‏(‏ثُم‏)‏ إذا عطفت الجُمَل‏.‏ وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك ‏(‏ثُمّ‏)‏ في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام‏.‏ وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل ‏(‏ثُمّ‏)‏ هنا إلى آراء‏:‏ للفراء، والزجاج، والزّمخشري، وأبي مسلم، وغيرهم، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق‏.‏

والوجه عندي‏:‏ أنّ ‏(‏ثُمّ‏)‏ ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام، إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏ ليرتّب عليه قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وهدى ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 156، 157‏]‏، فمعنى الكلام‏:‏ وفوْق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام ‏(‏وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله‏)‏ وما في القرآن‏:‏ الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه؛ إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين، فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن، وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب‏.‏

ومناسبة هذا الانتقال‏:‏ ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ ‏(‏91‏)‏ الآية، في هذه السّورة، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض‏.‏

والكتاب‏}‏ هو المعهود، أي التّوراة، و‏{‏تماما‏}‏ حال من الكتاب، والتّمام الكمال، أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم‏:‏ من صلاح إبراهيم، وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح‏.‏ ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ‏.‏

والموصول في قوله‏:‏ ‏{‏على الذي أحسن‏}‏ مراد به الجنس، فلذلك استوى مفرده وجمعه‏.‏

والمراد به هنا الفريق المحسن، أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل، فالفعل منزّل منزلة اللاّزم، أي الذي اتَّصف بالإحسان‏.‏

والتّفصيل‏:‏ التّبيين، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصّل الآيات‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏55‏)‏‏.‏

وكلّ شيء‏}‏ مراد به أعظم الأشياء، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين‏.‏ فتكون ‏(‏كلّ‏)‏ مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏145‏)‏‏.‏ أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها‏.‏

أو يراد بالشّيء‏:‏ الشّيء المهمّ، فيكون من حذف الصّفة، كقوله‏:‏ ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي كلّ سفينة صالحة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون‏}‏ رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل، ومعنى ذلك‏:‏ لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم، على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة‏:‏ من أطوار مجاورة القبط، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد، ما رفع منهم العلم، وأذْوَى الأخلاق الفاضلة، فنسوا مراقبة الله تعالى، وأفسدوا، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم‏.‏ وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح، فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر البعث والجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلته مبارك‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ثمّ آتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم آتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏

وافتتاح الجملة باسم الإشارة، وبناءُ الفعل عليه، وجعل الكتاب الذي حقّه أن يكون مفعولَ‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ مبتدأ، كلّ ذلك للاهتمام بالكتاب والتّنويه به، وقد تقدّم نظيره‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏92‏)‏‏.‏

وتفريع الأمر باتباعه على كونه منزلاً من الله، وكونه مباركاً، ظاهر‏:‏ لأنّ ما كان كذلك لا يتردّدُ أحد في اتّباعه‏.‏

والاتِّباع أطلق على العمل بما فيه على سبيل المجاز‏.‏ وقد مضى الكلام فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اتبع ما أوحي إليك من ربك‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏106‏)‏‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ فاتبعوه‏}‏ للمشركين، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ في محلّ الصّفة ل ‏{‏كتاب‏}‏، و‏(‏مبارك‏)‏ صفة ثانية، وهما المقصد من الإخبار، لأنّ كونه كتاباً لا مِرْيَة فيه، وإنَّما امْتروا في كونه منزّلاً من عند الله، وفي كونه مباركاً‏.‏ وحسن عطف‏:‏ ‏{‏مبارك‏}‏ على‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ لأنّ اسم المفعول لاشتقاقه هو في قوّة الفعل‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا‏}‏ كونوا متَّصفين بالتَّقوى وهي الأخذ بدين الحقّ والعملُ به‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ وعد على اتّباعه وتعريض بالوعيد بعذاب الدّنيا والآخرة إن لم يتَّبعوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏ في موضع التّعليل لفعل ‏{‏أنزلناه‏}‏ على تقدير لام التّعليل محذوفة على ما هو معروف من حذفها مع ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ والتّقدير‏:‏ لأن تقولوا، أي لقولكم ذلك في المستقبل، أي لملاحظة قولكم وتَوقُّع وقوعه، فالقول باعث على إنزال الكتاب‏.‏

والمقام يدلّ على أنّ هذا القول كانَ باعثاً على إنزال هذا الكتاب، والعلّة الباعثة على شيء لا يلزم أن تكون علّة غائية، فهذا المعنى في اللاّم عكس معنى لام العاقبة، ويؤول المعنى إلى أنّ إنزال الكتاب فيه حِكَم منها حكمة قطع معذرتهم بأنَّهم لم ينزّل إليهم كتاب، أو كراهية أن يقولوا ذلك، أو لتجنّب أن يقولوه، وذلك بمعونة المقام إيثاراً للإيجاز فلذلك يقدّر مضافٌ مثل‏:‏ كراهيةَ أو تجنّبَ‏.‏ وعلى هذا التّقدير جرى نحاة البصرة‏.‏ وذهب نحاة الكوفة إلى أنَّه على تقدير ‏(‏لاَ‏)‏ النّافية، فالتّقدير عندهم‏:‏ أنْ لا تقولوا، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55، 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏}‏

‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏ أي لتجنّب مَيْدها بكم، وقول عمرو بن كثلوم‏:‏

فَعَجَّلْنَا القِرَى أنْ تَشْتُمُونَا

وهذا القول يجُوز أن يكون قد صدر عنهم من قبلُ، فقد جاء في آية سورة القصص ‏(‏48‏)‏‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى‏}‏ ويجُوز أن يكون متوقّعاً ثمّ قالوه من بعد، وأيّاً مَا كان فإنَّه متوقّع أن يكرّروه ويعيدوه قولاً موافقاً للحال في نفس الأمر، فكان متوقّعاً صدوره عند ما يتوجّه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهودِ والنّصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السّير وكمال التديّن، وعند سؤالهم في الآخرة عن اتّباع ضلالهم، وعندما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصّالحة من النّعيم ورفع الدّرجات في ثواب الله فيتطلّعون إلى حظّ من ذلك ويتعلّلون بأنَّهم حرموا الإرشاد في الدّنيا‏.‏

وقد كان اليهود والنّصارى في بلاد العرب على حالة أكمل من أحوال أهل الجاهليّة، ألا ترى إلى قول النّابغة يمدح آل النّعمان بن الحارث، وكانوا نصارى‏:‏

مَجَلَّتُهم ذاتُ الإله ودينُهم *** قَويمٌ فما يَرْجُون غيرَ العواقب

ولا يَحْسِبُون الخَيْر لا شرّ بعده *** ولا يحسبون الشرّ ضَرْبَةَ لازب

والطائفة‏:‏ الجماعة من النّاس الكثيرة، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏102‏)‏، والمراد بالطّائفتين هنا اليهود والنّصارى‏.‏

والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التّوراة والإنجيل والزّبور‏.‏ ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنَّهم خوطبوا بالكتب السّماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم، فهذا تعلّل أول منهم، وثمة اعتلال آخر عن الزّهادة في التخلّق بالفضائل والأعمال الصالحة‏:‏ وهو قولهم‏:‏ وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏، أي وأنَّا كنّا غافلين عن اتباع رشدهم لأنّا لم نتعلم، فالدّراسة مراد بها التعليم‏.‏

والدّراسة‏:‏ القراءة بمعاودة للحفظ أو للتّأمّل، فليس سرد الكتاب بدراسة‏.‏ وقد تقدّم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليقولوا درست‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏105‏)‏، وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبما كنتم تدرسون‏}‏ من سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏‏.‏

والغفلة‏:‏ السّهو الحاصل من عدم التفطّن، أي لم نهتمّ بما احتوت عليه كتبهم فنقتدي بهديها، فكان مجيء القرآن منبّها لهم للهدي الكامل ومغنِياً عن دراسة كتبهم‏.‏

وقوله‏:‏ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم‏}‏ تدرّج في الاعتلال جاء على ما تكنّه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقيّة الأمم، وتطلّعهم إلى معالي الأمور، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحِدّة أذهانهم وسرعة تلقّيهم، وهم أخلقاء بذلك كلّه‏.‏

وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم، وإيقاظ لأفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشّرف بين الأمم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقد كان الذين اتَّبعوا القرآن أهدى من اليهود والنّصارى ببون بعيد الدّرجات‏.‏

ولقد تهيّأ المقام بعد هذا التّنبيه العجيب لفاء الفصيحة في قوله‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم‏}‏ وتقديرها‏:‏ فإذا كنتم تَقولون ذلك ويهجس في نفوسكم فقد جاءكم بيانٌ من ربِّكم يعني القرآن، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب‏.‏

والبيّنة ما به البيان وظهور الحقّ‏.‏ فالقرآن بيّنة على أنَّه من عند الله لإعجازه بلغاء العرب، وهو هدي بما اشتمل عليه من الإرشاد إلى طرق الخير، وهو رحمة بما جاء به من شريعة سمحة لا حرج فيها، فهي مقيمة لصلاح الأمّة مع التّيسير‏.‏ وهذا من أعجب التّشريع وهو أدلّ على أنَّه من أمر العليم بكلّ شيء‏.‏

وتفرّع عن هذا الإعذار لهم الإخبار عنهم بأنَّهم لا أظلم منهم، لأنَّهم كذّبوا وأعرضوا‏.‏ فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ للتّفريع‏.‏ والاستفهامُ إنكاري، أي لا أحد أظلم من الذين كذّبوا بآيات الله‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ في ‏{‏ممن كذب بآيات الله‏}‏ موصولة وما صدقُها المخاطبون من قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين‏}‏‏.‏

والظّلم هنا يشمل ظلم نفوسهم، إذ زجُّوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدّنيا، وظلمَ الرّسول صلى الله عليه وسلم إذ كذّبوه، وما هو بأهل التّكذيب، وظلم الله إذ كذّبوا بآياته وأنكروا نعمته، وظلموا النّاس بصدّهم عن الإسلام بالقول والفعل‏.‏

وقد جيء باسم الموصول لتدلّ الصّلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر، لأنّ من ثبَت له مضمون تلك الصّلة كان حقيقا بأنَّه لا أظلم منه‏.‏

ومعنى ‏{‏صَدَف‏}‏ أعرض هُو، ويطلق بمعنى صَرف غيره كما في «القاموس»‏.‏ وأصله التّعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثّاني ب ‏{‏عن‏}‏ يقال‏:‏ صدفتُ فلاناً عن كذا، كما يقال‏:‏ صرفتُه، وقد شاع تنزيله منزلة اللاّزم حتّى غلب عدمُ ظهور المفعول به، يقال‏:‏ صدَف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏46‏)‏، وقدّره في الكشاف‏}‏ هنا متعدّياً لأنَّه أنسب بكونهم أظلم النّاس تكثيراً في وجوه اعتدائهم، ولم أر ذلك لِغيره نظراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب‏}‏ إذ يناسبه معنى المتعدّي لأنّ الجزاء على أعراضهم وعلى صدّهم النّاس عن الآيات، فإنّ تكذيبهم بالآيات يتضمّن إعْراضهم عنها فناسب أن يكون صَدْفهم هو صرفَهم النّاس‏.‏

و ‏{‏سوء العذاب‏}‏ من إضافة الصّفة إلى الموصوف، وسوءه أشدّه وأقواه، وقد بيّن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏عذاباً فوق العذاب‏}‏ هو مضاعفة العذاب، أي شدّته‏.‏ ويحتمل أنَّه أريد به عذاب الدّنيا بالقتل والذلّ، وعذاب الآخرة، وإنَّما كان ذلك جزاءهم لأنَّهم لم يكذِّبوا تكذيباً عن دعوة مجرّدة، بل كذّبوا بعد أن جاءتهم الآيات البيّنات‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ مَصدريّة‏:‏ أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضاً مستمراً لم يدعوا راغبه ف ‏{‏كان‏}‏ هنا مفيدة للاستمرار مثل‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

استئناف بياني نشأ في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن كذب بآيات الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ الآية، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكّم، كما سيأتي‏.‏ فإن كان هذا وعيداً وتهديداً فهو ناشئ عن جملة‏:‏ ‏{‏سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ لإثارته سؤال سائل يقول‏:‏ متى يكون جزاؤهم، وإن كان تهكّما بهم على صدفهم عن الآيات التي جاءتهم، وتطلّعهم إلى آيات أعظم منها في اعتقادهم، فهو ناشئ عن جملة‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ لأنَّه يثير سؤال سائل يقول‏:‏ ماذا كانوا يترقَّبون من الآيات فوق الآيات التي جاءتهم‏.‏

و ‏{‏هل‏}‏ للاستفهام الإنكاري، وهي ترد له كما ترد له الهمزة على التّحقيق، ولذلك جاء بعده الاستثناء‏.‏

و ‏{‏ينظرون‏}‏ مضارع نَظَر بمعنى انتظر، وهو مشترك مع نظر بمعنى رأى في الماضي والمضارع والمصدر، ويخالفه في التّعدية، ففِعل نَظَر العين متعدّ بإلى، وفعل الانتظار متعدّ بنفسه، ويخالفه أيضاً في أنّ له اسم مصدر وهو النظِرة بكسر الظاء ولا يقال ذلك في النّظر بالعين‏.‏ والضّمير عائد للّذين يصدفون عن الآيات‏.‏

ثمّ إنْ كان الانتظار واقعاً منهم على أنَّه انتظار آيات، كما يقترحون، فمعنى الحصر‏:‏ أنَّهم ما ينتظرون بعد الآيات التي جاءتهم ولم يقتنعوا بها إلاّ الآيات التي اقترحوها وسألوها وشرطوا أن لا يؤمنوا حتّى يُجاءوا بها، وهي ما حكاه الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ إلى قوله ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90 92‏]‏ وقوله ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ فهم ينتظرون بعض ذلك بجِدّ من عامتَّهم، فالانتظار حقيقة، وبسخرية من قادتهم ومضلّليهم، فالانتظار مجاز بالصّورة، لأنَّهم أظهروا أنفسهم في مظهر المنتظرين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏ الآية‏.‏ والمراد ببعض آيات ربّك‏:‏ ما يشمل ما حكي عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90 93‏]‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ إلى قوله ‏{‏فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8 10‏]‏ فالكلام تهكّم بهم وبعقائدهم‏.‏

وإن كان الانتظار غير واقع بجدّ ولا بسخرية فمعناه أنَّهم ما يترقَّبون شيئاً من الآيات يأتيهم أعظم ممَّا أتاهم، فلا انتظار لهم، ولكنّهم صمّموا على الكفر واستبطنوا العناد، فإن فرض لهم انتظار فإنَّما هو انتظار ما سيَحل بهم من عذاب الآخرة أو عذاب الدّنيا أو ما هو برزخ بينهما، فيكون الاستنثاء تأكيداً للشّيء بما يشبه ضدّه‏.‏ والمراد‏:‏ أنَّهم لا ينتظرون شيئاً ولكن سيجيئهم ما لا ينتظرونه، وهو إتيان الملائكة، إلى آخره، فالكلام وعيد وتهديد‏.‏

والقصر على الاحتمالين إضافي، أي بالنّسبة لما ينتظر من الآيات، والاستفهام الخبري مستعمل في التهكّم بهم على الاحتمالين، لأنَّهم لا ينتظرون آية، فإنَّهم جازمون بتكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يسألون الآيات إفحاماً في ظنّهم‏.‏

ولا ينتظرون حساباً لأنَّهم مكذّبون بالبعث والحشر‏.‏

والإتيان بالنّسبة إلى الملائكة حقيقة، والمراد بهم‏:‏ ملائكة العذاب، مثل الّذين نزلوا يوم بدر ‏{‏إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وأمّا المسند إلى الرّب فهو مجاز، والمراد به‏:‏ إتيان عذابه العظيم، فهو لعظم هوله جعل إتيانه مسنداً إلى الآمر به أمراً جازماً ليعرف مقدار عظمته، بحسب عظيم قدرة فاعله وآمره، فالإسناد مجازي من باب‏:‏ بنى الأمير المدينة، وهذا مجاز وارد مثله في القرآن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده فوفّاه حسابه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏ إتيان أمره بحساب النّاس يوم القيامة، كقوله‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفا صفاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، أي لا ينتظرون إلاّ عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة‏.‏

وعلى الاحتمالات كلّها يجوز أن يكون وقوع ذلك يوم القيامة، ويجوز أن يكون في الدّنيا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً تذكيراً لهم بأنّ الانتظار والتريّث عن الإيمان وخِيمُ العاقبة، لأنَّه مهدّد بما يمنع من التّدارك عند النّدامة، فإمَّا أن يعقبه الموت والحساب، وإمّا أن يعقبه مجيء آية من آيات الله، وهي آية عذاب خارق للعادة يختصّ بهم فيعلموا أنَّه عقوبة على تكذيبهم وصَدْفهم، وحين ينزّل ذلك العذاب لا تبقى فسحة لتدارك ما فات لأنّ الله إذا أنزل عذابه على المكذّبين لم ينفع عنده توبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏ وقال ‏{‏ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ومن جملة آيات الله الآيات التي جعلها الله عامّة للنّاس، وهي أشراط السّاعة‏:‏ والتي منها طلوع الشّمس من مغربها حين تُؤذن بانقراض نظام العالم الدنيوي‏.‏ روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون وذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثمّ قرأ هذه الآية‏.‏

والنّفع المنفي هو النّفع في الآخرة، بالنّجاة من العذاب، لأنّ نفع الدّنيا بكشف العذاب عند مجيء الآيات لا ينفع النّفوس المؤمنة ولا الكافرة، لقوله تعالى‏:‏

‏{‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثمّ يحشرون على نياتهم»‏.‏ والمراد بالنّفس‏:‏ كلّ نفس، لوقوعه في سياق النّفي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لم تكن آمنت من قبل‏}‏ صفة ‏{‏نفساً‏}‏، وهي صفة مخصّصة لعموم‏:‏ ‏{‏نفساً‏}‏، أي‏:‏ النّفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة‏.‏ وتقديم المفعول في قوله‏:‏ ‏{‏نفساً إيمانها‏}‏ ليتمّ الإيجاز في عود الضّمير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ عطف على ‏{‏آمنت‏}‏، أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفيّة، وإنَّما يصلح للظرفية مدّة الإيمان، لا الإيمان، أي أو كسبت في مدّة إيمانها خيراً‏.‏ والخير هو الأعمال الصّالحة والطّاعات‏.‏

و ‏{‏أو‏}‏ للتّقسيم في صفات النّفس فيستلزم تقسيم النّفوس التي خصّصتها الصّفتان إلى قسمين‏:‏ نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل، فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله، ونفوس آمنت ولم تكسب خيراً في مدّة إيمانها، فهي نفوس مؤمنة، فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربّك‏.‏ وهذا القسم الثّاني ذو مراتب متفاوتة، لأنّ التّقصير في اكتساب الخير متفاوت، فمنه إضاعة لأعمال الخير كلّها، ومنه إضاعة لبعضها، ومنه تفريط في الإكثار منها‏.‏ وظاهر الآية يقتضي أن المراد نفوس لم تكسب في إيمانها شيئاً من الخير أي اقتصرت على الإيمان وفرّطت في جميع أعمال الخير‏.‏

وقد علم من التّقسيم أنّ هذه النّفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء الآيات، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله، وهو ما منّ به على هذه الأمّة من غفران السيّئات عند التّوبة، فالعزم على الخير هو التّوبة، أي العزم على اكتساب الخير، فوقع في الكلام إيجازُ حذف اعتمَاداً على القرينة الواضحة‏.‏ والتّقدير‏:‏ لا ينفع نفساً غيرَ مؤمنة إيمانُها أو نفساً لم تكن كسبت خيراً في إيمانها من قبل كسبها، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير، مثل التّوبة فإنَّها بعض اكتساب الخير، وليس المراد أنّه لا ينفع نفساً مؤمنة إيمانُها إذا لم تكن قد كسبت خيراً بحيث يضيع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير، لأنَّه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتّقسيم، ولكفى أن يقال لا ينفع نفساً إيمانها لم تكسب خيراً، ولأنّ الأدلّة القطعية ناهضة على أن الإيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يُدْحَض إذا فرّط صاحبه في شيء من الأعمال الصّالحة، ولأنَّه لو كان كذلك وسلَّمناه لما اقتضى أكثر من أنّ الّذي لم يفعل شيئاً من الخير عدا أنَّه آمن لا ينفعه إيمانه، وذلك إيجاد قسم لم يقل به أحد من علماء الإسلام‏.‏

وبذلك تعلم أنّ الآية لا تنهض حجّة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التّائب في النّار، والتّسويةَ بينه وبين الكافر، وإن كان ظاهرُها قبل التأمّل يوهم أنَّها حجّة لهم، ولأنّه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدّخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثاً لا يرضاه عاقل لنفسه، لأنّه يدخل في كلفةِ كثيرٍ من الأعمال بدون جدوى عليه منها، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعاً‏.‏ وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافة لا يرضاها من له نظر ثاقب‏.‏ 6 والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحدّ الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جُزْءاً من الإيمان، لا سيّما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال‏.‏

فصفة‏:‏ ‏{‏لم تكن آمنت من قبل‏}‏ تحذير للمشركين من التريُّث عن الإيمان خشية أن يبغتهم يومُ ظهور الآيات، وهم المقصود من السّياق‏.‏ وصفة ‏{‏أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ إدماج في أثناء المقصود لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصّالحة‏.‏

ثمّ إنّ أقوال المفسرين السّالفين، في تصوير هذين القسمين، تفرّقت تفرّقاً يؤذن باستصعاب استخلاص مقصود الآية من ألفاظها، فلم تقارب الإفصاح بعبارة بيّنة، ويجمع ذلك ثلاثة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ عن السدّي، والضحاك‏:‏ أنّ معنى ‏{‏كسبت في إيمانها خيراً‏}‏‏:‏ كسبت في تصديقها، أي معه أو في مدّته، عملاً صالحاً، قَالا‏:‏ وهؤلاء أهلُ القبلة، فإن كانت مُصدّقة ولم تعمل قبل ذلك، أي إتيان بعض آيات الله، فعمِلت بعد أن رأت الآية لم يُقبل منها، وإن عملتْ قبل الآية خيراً ثمّ عملت بعد الآية خيراً قُبل منها‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ لفظ القرآن جرى على طريقة التّغليب، لأنّ الأكثر ممّن ينتفع بإيمانه ساعتئذ هو من كسب في إيمانه خيراً‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّ الكلام إبهام في أحد الأمرين، فالمعنى‏:‏ لا ينفع يومئذ إيمان من لم يكن آمن قبل ذلك اليوم أو ضمّ إلى إيمانه فعل الخير، أي لا ينفع إيمان من يؤمن من الكفار ولا طاعة من يطيع من المؤمنين‏.‏ وأمّا من آمن قبل فإنَّه ينفعه إيمانه، وكذلك من أطاع قبلُ نفعته طاعته‏.‏

وقد كان قوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏، مقتصراً على ما يأتي من آيات الله في اليوم المؤجّل له، إعراضاً عن التعرّض لما يكون يوم تأتي الملائكة أو يأتي ربّك، لأنّ إتيان الملائكة، والمعطوف عليه غير محتمَل الوقوع وإنَّما جرى ذكره إبطالاً لقولهم‏:‏ ‏{‏أو تأتي باللَّه والملائكة قَبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ ونحوه من تهكّماتهم، وإنَّما الذي يكون ممّا انتظروه هو أن يأتي بعض آيات الله، فهو محلّ الموعظة والتّحذير، وآيات القرآن في هذا كثيرة منها قوله تعالى‏:‏

‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وآياتُ اللَّه منها ما يختصّ بالمشركين وهو ما هدّدهم الله به من نزول العذاب بهم في الدّنيا، كما نزل بالأمم من قبلهم، ومنها آيات عامّة للنّاس أجمعين، وهو ما يُعرف بأشراط السّاعة، أي الأشراط الكبرى‏.‏

وقد جاء تفسير هذه الآية في السنّة بطلوع الشّمس من مغربها‏.‏ ففي «الصّحيحين» وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها فإذا رآها النّاس آمَن مَنْ عليها فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ‏"‏‏.‏ ثمّ قرأ هذه الآية، أي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك‏}‏ إلى قوله ‏{‏خيراً‏}‏‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من تاب قبل طلوع الشّمس من مغربها تاب الله عليه ‏"‏‏.‏ وفي «جامع التّرمذي»، عن صفوان بن عسال المرادي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بابٌ مِن قِبل المغرب مفتوح مسيرة عَرضه أربعين سنة ‏(‏كذا‏)‏ مفتوح للتَّوبة لا يُغلق حتّى تطلُع الشّمس من مغربها ‏"‏ قال التّرمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

واعلم أنّ هذه الآية لا تعارض آية سورة النّساء ‏(‏18‏)‏‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار‏}‏ لأنّ محمل تلك الآية على تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة للأحوال الخاصّة بآحاد النّاس، وذلك ما فُسّر في حديث ابن عمر‏:‏ أنّ رسول الله قال‏:‏ إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ رواه التّرمذي، وابن ماجه، وأحمد‏.‏ ‏(‏ومعنى يغرغر أن تبلغ روحه أي أنفاسه رأْس حلقه‏)‏‏.‏ ومحمل الآية التي نتكلّم فيها تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة إلى النّاس كافة، وهي حالة يأس النّاس كلّهم من البقاء‏.‏

وجاء الاستئناف بقوله‏:‏ قل انتظروا إنا منتظرون‏}‏ أمراً للرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يهدّدهم ويتوعّدهم على الانتظار، إن كان واقعاً منهم، أو على التريُّثثِ والتّأخّر عن الدّخول في الإسلام الذي هو شبيه بالإنتظار إن كان الانتظار إدّعائياً، بأن يأمرهم بالدّوام على حالهم التي عبّر عنها بالانتظار أمْرَ تهديد، ويخبرهم بأنّ المسلمين ينتظرون نصر الله ونزول العقاب بأعدائهم، أي‏:‏ دوموا على انتظاركم فنحن منتظرون‏.‏

وفي مفهوم الصّفتين دلالة على أنّ النّفس التي آمنت قبل مجيء الحساب، وكسبت في إيمانها خيراً، ينفعها إيمانها وعملها‏.‏ فاشتملت الآية بمنطوقها ومفهومها على وعيد ووعد مُجملين تبيّنهما دلائل الكتاب والسنّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

استئناف جاء عقب الوعيد كالنّتيجة والفذلكة، لأنّ الله لما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل انتظروا إنا منتظرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏ أعقب ذلك بأنّ الفريقين متباينان مُتجافيان في مدّة الانتظار‏.‏

وجيء بالموصوليّة لتعريف المسند إليه لإفادة تحقّق معنى الصّلة فيهم، لأنَّها تناسب التّنفير من الاتّصال بهم، لأنّ شأن الدّين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالاً واحدة، والتّفرّق في أصوله ينافي وحدته، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبْذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمّة، ويعلمون أنّ الحقّ واحدٌ وأنّ الله كلّف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجراً واحداً، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يُبلِّغ المقصود‏.‏ فالمراد ب ‏{‏الذين فرّقوا دينهم‏}‏ قال ابن عبّاس‏:‏ هم المشركون، لأنَّهم لم يَتّفقوا على صورة واحدة في الدين، فقد عبدت القبائل أصناماً مختلفة، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة، وبعضهم يعبد الشّمس، وبعضهم يعبد القمر، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره‏.‏

ويجوز أن يراد‏:‏ أنَّهم كانوا على الحنيفيّة، وهي دين التّوحيد لجميعهم، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور‏.‏ وأمّا كونهم كانوا شيعاً فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها، وتزعم أنّه ينصرهم على عُبَّاد غيره كما قال ضِرار بن الخطّاب الفهري‏:‏

وفَرّت ثقيفٌ إلى لاتها *** بمنقلَب الخائب الخاسر

ومعنى‏:‏ ‏{‏لست منهم في شيء‏}‏ أنّك لا صلة بينك وبينهم‏.‏ فحرف ‏(‏مِن‏)‏ اتّصالية‏.‏ وأصلها ‏(‏من‏)‏ الابتدائيّة‏.‏

و ‏{‏شيء‏}‏ اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏28‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لستم على شيء‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏68‏)‏‏.‏

ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول‏:‏ أعلى الرّسول أن يتولّى جَزاءهم على سُوء عملهم، فلذلك جاء الاستئناف بقوله‏:‏ إنما أمرهم إلى الله‏}‏ فهو استئناف بياني، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد، أي إنَّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره، وهذا إنذار شديد، والمراد بأمرهم‏:‏ عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة‏.‏ و‏(‏إلى‏)‏ مستعمل في الانتهاء المجازي‏:‏ شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربَّنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون إنَّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون‏}‏

‏[‏الدخان‏:‏ 10، 16‏]‏‏.‏ والبطشة الكبرى هي بطشة يوم بدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون‏}‏ ‏(‏ثمّ‏)‏ فيه للتّرتيب الرُّتبي مع إفادة المهلة، أي يبقى أمرهم إلى الله مدّة‏.‏ وذلك هو الإمهال والإملاء لهم، ثمّ يعاقبهم، فأطلق الإنباء على العقاب، لأنَّه إن كان العقاب عقاب الآخرة فهو يتقدّمه الحساب، وفيه إنباء الجاني بجنايته وبأنَّه مأخوذ بها، فإطلاق الإنباء عليه حقيقة مراد معها لازمه على وجه الكناية، وإن كان العقاب عقاب الدّنيا فإطلاق الإنباء عليه مجاز، لأنّه إذا نزل بهم العذاب بعد الوعيد عَلموا أنَّه العقاب الموعود به، فكَانَ حصول ذلك العلم لهم عند وقوعه شَبيهاً بحصول العلم الحاصل عن الإخبار فأطلق عليه الإنباء، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ينبئهم‏}‏ بمعنى يعاقبهم بما كانوا يفعلون‏.‏

ووصف المشركين بأنَّهم فَرّقوا دينهم وكانوا شيعاً‏:‏ يؤذن بأنَّه وصف شنيع، إذ ما وصفهم الله به إلاّ في سياق الذم، فيؤذن ذلك بأنّ الله يحذّر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك إلى قوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها، كما فعل بعض العرب من منعهم الزّكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة‏.‏ وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتَّبيينات فلا بأس به، وهو من النّظر في الدّين‏:‏ مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتّفاق على إثباتها‏.‏ وكذلك تفريق الفُروع‏:‏ كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الإتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها‏.‏ كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب‏.‏ والحاصلُ أنّ كلّ تفريق لا يُكفِّر به بعض الفرق بعضاً، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلّب للحقّ بقدر الطّاقة وكلّ تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضاً، ومقاتلة بعضهم بعضاً في أمر الدّين، فهو ممّا حذّر الله منه، وأمّا ما كان بين المسلمين نزاعاً على المُلك والدّنيا فليس تفريقاً في الدّين، ولكنّه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات‏.‏

وقرأه الجمهور‏:‏ ‏{‏فَرّقوا‏}‏ بتشديد الراء وقرأه حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏فَارَقوا‏}‏ بألف بعد الفاء أي تركوا دينهم، أي تركوا ما كان ديناً لهم، أي لجميع العرب، وهو الحنيفية فنبذوها وجعلوها عدّة نحل‏.‏ ومآل القراءتين واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

من عادة القرآن أنَّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار، وإذا بَشَّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتَّصف بضدّ ما بشر عليه، وقد جرى على ذلك ههنا‏:‏ فإنَّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريُّثثِ في اكتساب الخير، قبل أن يأتي بعض آياتتِ الله القاهرة، بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَنْفَع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏ فحَدّ لَهم بذلك حدّاً هو من مظهر عدله، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعَدله‏.‏ وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها، فقوله‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة‏}‏ إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض‏.‏

فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله‏:‏ ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏ وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها‏}‏ الآية، كما تقدّم آنفاً‏.‏

و ‏{‏جاء بالحسنة‏}‏ معناه عمل الحسنة‏:‏ شبه عمله الحسنة بحال المكتسب، إذ يخرج يطلب رزقاً من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء‏.‏ وهذا كما استعير له اسم التِّجارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

فالباء للمصاحبة، والكلام تمثيل، ويجوز حمل المجيء على حقيقته، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله‏.‏

وأمْثال الحسنة ثواب أمثالها، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فلا يجزي إلا مثلها‏}‏، أو معناه تحسب له عشرُ حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث‏:‏ «كتبها الله عنده عشر حسنات» ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلا يجزي إلا مثلها‏}‏‏.‏

والأمثال‏:‏ جمع مِثْل وهو المماثل المساوي، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتباراً بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال‏.‏ والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضلٌ من الله، وهو جزاء غالب الحسنات، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضِعْف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ فذلك خاصّ بالإنفاق في الجهاد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة»‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عَشرُ أمثالِها‏}‏ بإضافة ‏{‏عشر‏}‏ إلى ‏{‏أمثالها‏}‏‏.‏ وهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف، وقرأه يعقوب بتنوين ‏{‏عشر‏}‏ ورفع ‏{‏أمثالها‏}‏، على أنّه صفة ل ‏{‏عشر‏}‏، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها‏.‏

ومماثلة الجزاء للحسنة موكول إلى علم الله تعالى وفضله‏.‏

وإنَّما قال في جانب السيّئة فلا يُجزى إلاّ مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النّفي، اهتماماً به، لإظهار العدل الإلهي، فالحصر حقيقي، وليس في الحصر الحقيقي ردّ اعتقاد بل هو إخبار عمّا في نفس الأمر، ولذلك كان يساويه أن يقال‏:‏ ومن جاء بالسيّئة فيُجزى مثلها، لولا الاهتمام بجانب نفي الزّيادة على المماثلة‏.‏ ونظيره قول النّبيء صلى الله عليه وسلم حين سألتْه هند بنت عتبة فقالت‏:‏ إنّ أبا سفيان رجل مِسِّيك فهل عليّ حرج أن أُطعم من الذي له عيالَنا، فقال لها‏:‏ ‏"‏ لا إلاّ بالمعروف ‏"‏ ولم يقل لها‏:‏ أطعميهم بالمعروف‏.‏ وقد جاء على هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم ومن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيّئة واحدة»؛ فأكَّدها بواحدة تحقيقاً لعدم الزّيادة في جزاء السيّئة‏.‏

ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ والضّمير يعود إلى ‏{‏من جاء بالسيّئة‏}‏، إظهار للعدل، فلذلك سجل الله عليهم بأنّ هذا لا ظلم فيه ليُنصِفوا من أنفسهم‏.‏ وأمَّا عدّ عود الضّميرين إلى الفريقين فلا يناسب فريق أصحاب الحسنات، لأنَّه لا يحسن أن يقال للذي أُكرم وأفيض عليه الخير إنَّه غير مظلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين، وما تخلّلها، إلى فذلكة ما أُمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشّأن، غَلقاً لباب المجادلة مع المعرضين، وإعلاناً بأنّه قد تقلّد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنَّه ثابت على ما جاءهم به، وأنّ إعراضهم لا يزلزله عن الحقّ‏.‏

وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه، ثمّ أخذ يبين ما رَضِيه لِنفسه وما قَرّ عليه قَراره، علم السّامع أنَّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة، ولذلك غيّر الأسلوب‏.‏ فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويهاً بالمقول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنني هداني ربي‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ الذي بيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏ فزاده بياناً بقوله هذا‏:‏ ‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنَّما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم بهدي من الله، وأنَّه جعله ديناً قيّماً على قواعد ملّة إبراهيم عليه السّلام، إلاّ أنَّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة‏.‏ وافتُتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين‏.‏

وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلى الله عليه وسلم للَّه تعالى، وتعريضاً بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏ تمثيليّة‏:‏ شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود‏.‏

والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق، يقال‏:‏ هو هاد خِرّيت، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة‏.‏ وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم، والصّراطُ للدين القويم، فكان تشبيهاً مركّباً قابلاً للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة‏.‏

ووُصف الصّراط بالمستقيم، أي الذي لا خطَأ فيه ولا فساد، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنَّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيَّر في أمره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ديناً‏}‏ تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبّه، وانتصب على الحال من‏:‏ ‏{‏صراط‏}‏ لأنَّه نكرة موصوفة‏.‏

والدّين تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدِّين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس‏.‏

والقَيِّم بفتح القاف وتشديد الياء كما قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ وصف مبالغة قَائم بمعنى معتدل غير معوج، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز، لأنّ المرء إذا قام اعتدلت قامته، فيلزم الاعتدال القيام‏.‏

والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في القيام بالأمر، وهو مرادف القيّوم، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوّم عليه، فالإسلام قيّم بالأمّة وحاجتها، يقال‏:‏ فلان قيّم على كذا، بمعنى مدبّر له ومصلح، ومنه وصف الله تعالى بالقيُّوم، وهذا أحسن لأنّ فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءاً من التّمثيليّة، فلا تكون إعادة لبعض التّشبيه‏.‏

وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏قيماً‏}‏ بكسر القاف وفتح الياء مخفّفة وهو من صيغ مصادر قام، فهو وصف للدّين بمصدر القيام المقصودِ به كفاية المصلحة للمبالغة، وهذه زنة قليلة في المصادر، وقَلْبُ واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب‏:‏ لأنّ الغالب فيه تصحيح لامِه لأنَّها مفتوحة، فسواء في خفّتِها وقوعها على الواو أو على الياء، مثل عِوَض وحِوَل، وهذَا كشذوذ جياد جمع جواد، وانتصب ‏{‏قيماً‏}‏ على الوصف ل ‏{‏دينا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ حال من‏:‏ ‏{‏ديناً‏}‏ أو من‏:‏ ‏{‏صراط مستقيم‏}‏ أو عطفُ بيان على ‏{‏ديناً‏}‏‏.‏

والملّة، الدّين‏:‏ فهي مرادفة الدين، فالتَّعبير بها هنا للتَّفنّن ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏‏.‏

و ‏{‏ملّة‏}‏ فِعْلة بمعنى المفعول، أي المملول، من أمللت الكتاب إذا لقَّنت الكاتب ما يَكتب، وكان حقّها أن لا تقترن بهاء التّأنيث لأنّ زنة ‏(‏فِعْل‏)‏ بمعنى المفعول تلزم التّذكير، كالذِّبح، إلاّ أنَّهم قرنوها بهاء التّأنيث لما صيّروها اسماً للدّين، ولذلك قال الرّاغب‏:‏ الملّة كالدّين، ثمّ قال‏:‏ «والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلاّ إلى النَّبيء الذي تسند إليه نحو ملّة إبراهيم، ملّة آبائي، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة، ولا تستعمل إلاّ في جملة الشّريعة دون آحادها لا يقال الصّلاة ملّة الله» أي ويقال‏:‏ الصّلاةُ دين الله ذلك أنَّه يراعى في لفظ الملّة أنَّها مملول من الله فهي تضاف للّذي أُمِلَّت عليه‏.‏

ومعنى كون الإسلام ملّةَ إبراهيم‏:‏ أنَّه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي‏:‏ التّوحيد، ومسايرة الفطرة، والشّكر، والسّماحة، وإعلان الحقّ، وقد بيَّنتُ ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏67‏)‏‏.‏

والحنيف‏:‏ المُجانب للباطل، فهو بمعنى المهتدي، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بل مِلَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏135‏)‏‏.‏ وهو منصوب على الحال‏.‏

وجملة‏:‏ وما كان من المشركين‏}‏ عطف على الحال من ‏{‏إبراهيم‏}‏ عليه السّلام المضاف إليه، لأنّ المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه، وقد تقدّم في آية سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

استئناف أيضاً، يتنزّل منزلة التّفريع عن الأوّل، إلاّ أنَّه استؤنف للإشارة إلى أنّه غرض مستقلّ مُهِمّ في ذاته، وإن كان متفرّعاً عن غيره، وحاصل ما تضمّنه هو الإخلاص لله في العبادة، وهو متفرّع عن التّوحيد، ولذلك قيل‏:‏ الرياءُ الشّرك الأصغر‏.‏ عُلّم الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله عقب ما عُلّمه بما ذكر قبله لأنّ المذكور هنا يتضمّن معنى الشّكر لله على نعمة الهداية إلى الصّراط المستقيم، فإنَّه هداه ثمّ ألهمه الشّكر على الهداية بأن يجعل جميع طاعته وعبادته لله تعالى‏.‏ وأعيد الأمر بالقول لما علمتَ آنفاً‏.‏

وافتتحت جملة المقول بحرف التّوكيد للاهتمام بالخبر ولتحقيقه، أو لأنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام كان يُرائي بصلاته، فقد قال بعض المشركين لمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي عند الكعبة‏:‏ «ألاَ تنظرون إلى هذا المُرائي أيُّكم يقوم إلى جَزور بني فلان فيعمِد إلى فَرثها وسلاها فإذا سجد وضعه بين كتفيه»‏.‏ فتكون ‏(‏إنّ‏)‏ على هذا لردّ الشكّ‏.‏

واللاّم في ‏{‏لله‏}‏ يجوز أن تكون للملك، أي هي بتيسير الله فيكون بياناً لقوله‏:‏ ‏{‏إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي لأجل الله‏.‏

وجعل صلاته لله دون غيره تعريضاً بالمشركين إذ كانوا يسجدون للأصنام‏.‏ ولذلك أردف بجملة ‏{‏لا شريك له‏}‏‏.‏

والنّسك حقيقته العبادة ومنه يسمى العابد الناسك‏.‏

والمحْيَا والممات يستعملان مصدرين ميميين، ويستعملان اسمي زمان، من حيي ومات، والمعنيَان محتمَلان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري كان المعنى على حذف مضاف تقديره‏:‏ أعمال المحيَا وأعمال الممات، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبّس بها المرء مع حياته، ومع وقت مماته‏.‏ وإذا كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات‏.‏

ثمّ إنّ أعمال الحياة كثيرة وفيرة، وأمّا الأعمال عند الموت فهي ما كان عليه في مدّة الحياة وثباتُه عليه، لأنّ حالة الموت أو مدّته هي الحالة أو المدّة التي تنقلب فيها أحوال الجسم إلى صفة تؤذن بقرب انتهاء مدّة الحياة وتلك حالة الاحتضار، وتلك الحالة قد تؤثّر انقلاباً في الفكر أو استعجالاً بما لم يكن يستعجل به الحي، فربّما صدرت عن صاحبها أعمال لم يكن يصدرها في مدّة الصحّة، اتّقاءً أو حياءً أو جلباً لنفع، فيرى أنَّه قد يئس ممّا كان يُراعيه، فيفعل ما لم يكن يفعل، وأيضاً لتلك الحالة شؤون خاصّة تقع عندها في العادة مثل الوصيّة، وهذه كلّها من أحوال آخر الحياة، ولكنّها تضاف إلى الموت لوقوعها بقربه، وبهذا يكون ذكر الممات مقصوداً منه استيعاب جميع مدّة الحياة حتّى زمن الإشراف على الموت‏.‏

ويجوز أن يكون المراد من الممات ما يحصل للرسول عليه الصّلاة والسّلام بعد وفاته من توجهاته الرّوحيّة نحو أمّته بالدّعاء لهم والتّسليم على من سلّم عليه منهم والظّهور لخاصّة أمَّته في المنام فإنّ للرّسول بعد مماته أحكام الحياة الرّوحيّة الكاملة كما ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا سلّم عليّ أحد من أمَّتي رَدّ الله عليّ روحِي فرددتُ عليه السّلام ‏"‏ وكذلك أعماله في الحشر من الشّفاعة العامّة والسّجود لله في عرصات القيامة فتلك أعمال خاصة به صلى الله عليه وسلم وهي كلّها لله تعالى لأنَّها لنفع عبيده أو لنفع أتباع دينه الذي ارتضاه لهم، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ومماتي‏}‏ هنا ناظراً إلى قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ حياتي خير لكم ومماتي خير لكم ‏"‏‏.‏

ويجوز أن يكون معنى مماته لله الشهادة في سبيل الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمّته اليهودية بخيبر في لحم شاة أطعموه إياه حصل بعض منه في إمعائه‏.‏ ففي الحديث ‏"‏ ما زالت أكلة خيبر تعتادني كل عام حتى كان هذا أوان قطع أبْهَري ‏"‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏ومحياي ومماتي لله رب العالمين‏}‏ تحقّق معنى الإسلام الذي أصله الإلقاء بالنّفس إلى المُسْلَم له، وهو المعنى الذي اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏}‏ كما تقدّم في سورة آل عمران ‏(‏20‏)‏، وهو معنى الحنيفية الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السّلام في قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ كما في سورة البقرة ‏(‏131‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ رب العالمين‏}‏ صفة تشير إلى سبب استحقاقه أن يكون عمل مخلوقاته له لا لغيره، لأنّ غيره ليس له عليهم نعمة الإيجاد، كما أشار إليه قوله في أوّل السورة ‏(‏1‏)‏‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏.‏‏}‏ وجملة‏:‏ لا شريك له‏}‏ حال من اسم الجلالة مصرّحة بما أفاده جمع التّوكيد مع لام الملك من إفادة القصر‏.‏ والمقصود من الصّفة والحال الردّ على المشركين بأنَّهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم، وبأنَّهم أشركوا معه غيره في الإلهيّة‏.‏

وقَرأ نافع‏:‏ ‏{‏ومحياي‏}‏ بسكون الياء الثّانية إجراء للوصل مُجرى الوقف وهو نادر في النّثر، والرّواية عن نافع أثبتته في هذه الآية، ومعلوم أنّ الندرة لا تُناكد الفصاحة ولا يريبك ما ذكره ابن عطيّة عن أبي عليّ الفارسي‏:‏ «أنَّها شاذّة عن القياس لأنَّها جمعت بين ساكنين لأنّ سكون الألف قبل حرف ساكن ليس ممّا يثقل في النّطق نحو عصاي، ورؤياي، ووجه إجراء الوصل مجرى الوقف هنا إرادة التّخفيف لأنّ توالي يائين مفتوحتين فيه ثقل، والألف النّاشئة عن الفتحة الأولى لا تعدّ حاجزاً فعدل عن فتح الياء الثّانية إلى إسكانها»‏.‏ وقرأه البقيّة بفتح الياء وروي ذلك عن وَرش، وقال بعض أهل القراءة أنّ نافعاً رجع عن الإسكان إلى الفتح‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وبذلك أمرت‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن صلاتي‏}‏ إلخ‏.‏ فهذا ممّا أمر بأن يقوله، وحرف العطف ليس من المقول‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وبذلك‏}‏ إلى المذكور من قوله‏:‏ ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏ إلخ، أي أنّ ذلك كان لله بهدي من الله وأمرٍ منه، فرجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنَّني هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏ يعني أنَّه كما هداه أمره بما هو شكر على تلك الهداية، وإنَّما أعيد هنا لأنَّه لما أضاف الصّلاة وما عطف عليها لنفسه وجعلها لله تعالى أعقبها بأنّه هَدْي من الله تعالى، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏ وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا أول المسلمين‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏وبذلك أمرت‏}‏ خبر مستعمل في معناه الكنائي، وهو لازم معناه، يعني قبول الإسلام والثّبات عليه والاغتباط به، لأنّ من أحبّ شيئاً أسرع إليه فجاءه أوّل النّاس، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكّن والترجّح، كما قال النّابغة‏:‏

سَبَقْتَ الرّجالَ الباهشين إلى العلا *** كسَبْق الجواد اصطادَ قبل الطوارد

لا يريد أنّه كان في المعالي أقدم من غيره لأنّ في أهل المعالي من هو أكبر منه سِنّاً، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثّابت عليه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ نحن الآخِرون السّابقون يوم القيامة ‏"‏‏.‏ وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطّمع في التّنازل لهم في دينهم ولو أقَلّ تنازللٍ‏.‏ ومن استعمال ‏(‏أوّل‏)‏ في مثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏ كما تقدّم في سورة البقرة ‏(‏41‏)‏‏.‏ وليس المراد معناه الصّريحَ لقلّة جدوى الخبر بذلك، لأنّ كلّ داع إلى شيء فهو أوّل أصحابه لا محالة، فماذا يفيد ذلك الأعداء والأتباعَ، فإن أريد بالمسلمين الذين اتَّبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم، لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان مسلماً وكان بنوه مسلمين، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه السّلام‏:‏ ‏{‏فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ وكذلك أبناء يعقوب كانوا مسلمين إذ قالوا‏:‏ ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وأبو جعفر بإثبات ألف «أنَا» إذا وقعت بعدها همزة ويجري مدّها على قاعدة المدّ، وحذفَها الباقون قبل الهمزة، واتَّفق الجميع على حذفها قبل غير الهمزة تخفيفاً جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو‏:‏ «أنا يُوسف» واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل، وأحسب أنّ الأفصح إثباتها مع الهمز للتّمكّن من المدّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَئ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏‏.‏

استئناف ثالث، مفتتح بالأمر بالقول، يتنزّل منزلة النّتيجة لما قبله، لأنَّه لمَّا عُلم أنّ الله هداه إلى صراط مستقيم، وأنقذه من الشّرك، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى، شكراً على الهداية، أتبع ذلك بأن يُنكر أنْ يَعْبُد غير الله تعالى لأنّ واهب النّعم هو مستحقّ الشّكر، والعبادةُ جماع مراتب الشّكر، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عَبدوا غيره وإعادة الأمر بالقول تقدّم بيان وجهه‏.‏

والاستفهام إنكار عليهم لأنَّهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم، وقد حاولوا منه ذلك غير مرّة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه، فهم دائمون على الرّغبة في موافقتهم على دينهم، حكى ابن عطيّة عن النقّاش أنّ الكفّار قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم «ارجِعْ إلى ديننا واعْبُدْ آلهتنا ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقَّعها في دنياك وآخرتك» وأنّ هذه الآية نزلت في ذلك‏.‏

وقدّم المفعول على فعله لأنَّه المقصود من الاستفهام الإنكاري، لأنّ محلّ الإنكار هو أن يكون غير الله يُبتغى له ربّاً، ولأنّ ذلك هو المقصود من الجواب إذا صحّ أنّ المشركين دعوا النّبي صلى الله عليه وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجِب أو لموجِبَيْن، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أتخذ وليا‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏14‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ وهو رب كل شيء‏}‏ في موضع الحال، وهو حال معلّل للإنكار، أي أنّ الله خالق كلّ شيء وذلك باعترافهم، لأنَّهم لا يدّعون أنّ الأصنام خالقة لشيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ فلمّا كان الله خالق كلّ شيء وربَّه فلا حقّ لغيره في أن يعبده الخلائق، وعبادة غيره ظلم عظيم، وكفر بنعمة الربوبيّة، وبقطع النَّظر عن كون الخلق نعمة، لأنّ الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم، فإنّ مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبوديّة‏.‏

وإنَّما قيل‏:‏ ‏{‏وهو رب كل شسء‏}‏، ولم يقل‏:‏ وهو ربّي، لإثبات أنّه ربّه بطريق الاستدلال لكونه إثباتَ حكم عام يشمل المقصودَ الخاصّ، ولإفادة أنّ أربابهم غير حقيقة بالربوبيّة لأنَّها مربوبة أيضاً لله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏ من القول بالمأمور به، مفيد متاركةً للمشركين ومَقتاً لهم بأنّ عنادهم لا يَضرّه، فإنّ ما اقترفوه من الشّرك لا يناله منه شيء فإنَّما كسب كلّ نفس عليها، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم‏.‏ فالتّعميم في الحكم الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏كل شيء‏}‏ فائدته مثل فائدة التّعميم الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏وهو رب كل شيء‏}‏‏.‏

ودلّت كلمة ‏(‏على‏)‏ على أنّ مفعول الكسب المحذوف تقديره‏:‏ شرّاً، أو إثماً، أو نحو ذلك، لأنّ شأن المخاطبين هو اكتساب الشرّ والإثم كقوله‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ ولك أن تجعل في الكلام احتباكاً تقديره‏:‏ ولا تكسب كلّ نفس إلاّ لها ولا تكتسب إلا عليها فحذف من الأول لدلالة الثّاني وبالعكس إذا جربت على أن ‏(‏كسب‏)‏ يغلب في تحصيل الخير، وأنّ ‏(‏اكتسب‏)‏ يغلب في تحصيل الشرّ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا‏.‏ ولا أحسب بين الفعلين فرقا، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ تكملة لمعنى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏ فكما أنّ ما تكسبه نفس لا يتعدّى منه شيء إلى غيرها، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئاً، والمعنى‏:‏ ولا أحمل أوزاركم‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وازرة‏}‏ صفة لموصوف محذوف تقديره‏:‏ نفس، دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكسب كل مفس إلا عليها‏}‏، أي لا تحمل نفس حاملة حِمْل أخرى‏.‏

والوزر‏:‏ الحِمل، وهو ما يحمله المرء على ظهره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنّا حُمّلنا أوزاراً من زينة القوم‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وأمَّا تسمية الإثم وزراً فلأنَّه يتخيّل ثقيلاً على نفس المؤمن‏.‏ فمعنى ‏{‏لا تزر وازرة‏}‏ لا تحمل حاملة، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئاً تحمله عنها، أي كلّ نفس تزر وزر نفسها، فيفيد أنّ وزر كلّ أحد عليه وأنَّه لا يحمل غيرُه عنه شيئاً من وزره الذي وزَره وأنَّه لا تَبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق، فلا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولا تُتَّبع نفس بإثم غيرها، فهي إن حَمَلت لا تحمل حِمل غيرها‏.‏ وهذا إتمام لمعنى المتاركة‏.‏

‏{‏ثمّ‏}‏ للتّرتيب الرّتبي‏.‏ وهذا الكلام يحتمل أن يكون من جملة القول المأمور به فيكون تعقيباً للمتاركة بما فيه تهديدهم ووعيدهم، فكان موقع ‏{‏ثمّ‏}‏ لأنّ هذا الخبر أهمّ‏.‏ فالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربكم مرجعكم‏}‏ خطاب للمشركين وكذلك الضّميران في قوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ والمعنى‏:‏ بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين، لأنّ الاختلاف واقع بينهم وبين المسلمين، وليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف‏.‏ فأدمج الوعيد بالوعيد‏.‏ وقد جعلوا هذه الجملة مع التي قبلها آية واحدة في المصاحف‏.‏

ويحتمل أن يكون المقول قد انتهى عند قوله‏:‏ ‏{‏وزر أخرى‏}‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربكم مرجعكم‏}‏ استئناف كلام من الله تعالى خطاباً للنّبيء صلى الله عليه وسلم وللمعاندين له‏.‏ و‏(‏ثُمّ‏)‏ صالحة للاستئناف لأنّ الإستئناف ملائم للتّرتيب الرّتبي، والكلام وعيد ووعد أيضاً‏.‏ ولا ينافي ذلك أن تكون مع التي قبلها آية واحدة‏.‏

والتّنبئة‏:‏ الإخبار، والمراد بها إظهار آثار الإيمان والكفر واضحة يوم الحساب، فيعلموا أنَّهم كانوا ضالّين، فشبّه ذلك العلم بأنّ الله أخبرهم بذلك يومئذ وإلاّ فإنّ الله نبأهم بما اختلفوا فيه من زمَن الحياة الدّنيا، أو المراد ينبّئكم مباشرة بدون واسطة الرّسل إنباء لا يستطيع الكافر أن يقول‏:‏ هذا كذب على الله، كما ورد في حديث الحَشر‏:‏ «فيُسمعهم الدّاعي ليس بينهم وبين الله حِجاب»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث، وعلى وقوعه، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى‏.‏ ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله‏:‏ ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم‏}‏‏.‏ ولذلك أعقبه بتذييله‏:‏ ‏{‏إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم‏}‏‏.‏

فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغي رباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏؛ وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك‏.‏ فموقع هذه عقب قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربكم مرجعكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ تذكير بالنّعمة، بعد الإنذار بسلبها، وتحريض على تدارك ما فات، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها‏.‏

ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة، وتكون الإضافة على معنى اللام، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض‏.‏ والمراد‏:‏ الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر‏.‏

والخلائف‏:‏ جمع خليفة، والخليفة‏:‏ اسم لما يُخلف به شيء، أي يجعل خلفاً عنه، أي عوضَه، يقال‏:‏ خليفة وخِلْفة، فهو فَعيل بمعنى مفعول، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه‏.‏

وإضافته إلى الأرض على معنى ‏(‏في‏)‏ على لوجه الأوّل، وهو كون الخَطاب للمشركين، أي خلائف فيها، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏‏.‏ والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين‏.‏

وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة‏:‏ وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم، فهذه نعمة، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء‏.‏

وعطْف قوله‏:‏ ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏ يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏جعلكم خلائف الأرض‏}‏ فهو أيضاً عبرة وعِظة، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم‏.‏

ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏ليبلونكم ما آتاكم‏}‏ أي ليَخْبُركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات‏.‏ والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم‏.‏ وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه‏.‏

والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيهاً للتكوين بإعطاء المعطي شيئاً لغيره‏.‏

والبلْو‏:‏ الاختبار، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏ والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات، فالله يعلم مراتب النّاس، ولكن سمّى ذلك بَلْوى لأنَّها لا تظهر للعيان إلاّ بعد العمل، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات، فهذا موقع لام التّعليل، وقريب منه قول إياس بن قبيصَة الطائي‏:‏

وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعلم مَنْ جَبانها مِن شُجاعها

وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم‏}‏ تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة ‏{‏سريع العقاب‏}‏ وصفة ‏{‏لغفور‏}‏ ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة‏.‏

واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقَب، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى‏:‏ كلّ آت قريب، إذ لا موقع له هنا‏.‏

ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف ‏(‏سريع العقاب‏)‏ على موكِّد واحد، وتعزيز وصف ‏(‏الغفور الرحيم‏)‏ بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ، ولام الابتداء، والتّوكيد اللّفظي؛ لأنّ ‏(‏الرّحيم‏)‏ يؤكِّد معنى ‏(‏الغفور‏)‏‏:‏ ليُطمئِن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدوف، إلى الإقلاع عمّا هم فيه‏.‏